فصل: النوع الأول: عهود الخلفاء عن الخلفاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الثالث من المقالة الخامسة في العهود:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في معنى العهد:

العهد لفظٌ مشترك يقع في اللغة على ستة معانٍ: أحدها- الأمان. ومنه قوله تعالى: {فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}.
الثاني- اليمين. ومنه قوله تعالى: {وأوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عاهَدْتُمْ}.
الثالث- الحفاظ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «حُسْنُ العَهْدِ مِنَ الإيمان».
الرابع- الذمة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا يُقْتَل مُسْلِمٌ بكافر ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْده».
الخامس- الزمان. ومنه قولهم: كان ذلك على عهد فلان.
السادس- الوصية. ومنه قوله تعالى {ولَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} وهو المراد هنا.
قال الجوهري: ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة.

.الفصل الثاني في بيان أنواع العهود:

وهي ثلاثة أنواع:

.النوع الأول: عهود الخلفاء عن الخلفاء:

ويتعلق النظر به من ثمانية أوجه:
الوجه الأول في أصل مشروعيتها:
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قيل لعمر عند موته: ألا تعهد؟ فقال: أأتحمل أمركم حياً وميتاً؟ إن أستخلف فقد أستخلف من هو خيرٌ مني، يعني أبا بكر: وإن أترك فقد ترك من هو خيرٌ مني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأثبت استخلاف أبي بكر رضي الله عنه بذلك، مشيراً إلى ما روي: أنه لما اشتد بأبي بكر الصديق رضي الله عنه الوجع، أرسل إلى علي وعثمان ورجالٍ من المهادرين والأنصار، فقال: قد حضر ما ترون، ولا بد من قائمٍ بأمركم، فإن شئتم استخرتم لأنفسكم، وإن شئتم استخرت لكم. قالوا: بل اختر لنا، فأمر عثمان فكتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما سيأتي ذكره- فقال عمر: لا أطيق القيام بأمور الناس- فقال أبو بكر هاتوا سيفي. وتهدده فانقاد عمر، ثم دخل عليه طلحة فعاتبه على استخلاف عمر. فقال: إن عمر والله خيرٌ لكم وأنت شرٌ له، والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك، ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها. أتيتني وقد وكفت عينك، تريد أن تفتنني عن ديني ووتردني عن رأيي، قم لا أقام الله رجلك، والله لئن بلغني أنك غمصته وذكرته بسوءٍ لألحقنك بحمضات قنةٍ حيث كنتم تسقون ولا تروون، وترعون ولا تشبعون، وأنتم بذلك بجحون راضون، فقام طلحة فخرج.
قال العسكري: الحمضات جمع حمضة ضربٌ من النبت، والقنة أعلى الجبل.
قال الماوردي: وكان استخلاف أبي بكر رضي الله عنه عمر باتفاقٍ من الصحابة من غير نكيرٍ فكان إجماعاً.
وقد عهد عمر رضي الله عنه إلى ستةٍ، وهم عثمان، وعليٌ، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وتركها شورى بينهم، فدخلوا فيها وهم أعيان العصر وأشراف الصحابة رضوان الله عليهم.
الوجه الثاني في معنى الاستخلاف:
قال البغوي رحمه الله في كتابه التهذيب في الفقه: الاستخلاف أن يجعله خليفةً في حياته ثم يخلفه بعده. قال: ولو أوصى بالإمامة فوجهان؛ لأنه يخرج بالموت عن الولاية فلا يصح منه تولية الغير. واستشكل الرافعي رحمه الله هذه التوجيه بكل وصية، وبأن ما ذكره من جعله خليفةً بعده، إن أريد به استنابته فلا يكون ذلك عهداً إليه بالإمامة. وإن أريد جعله إماماً في الحال، فهو: إما خلع نفس العاهد، وإما اجتماع إمامين في وقت واحد. وإن أريد جعله خليفة أو إماماً بعد موته فهو الوصية من غير فرق.
قلت: وهذا جنوحٌ من الرافعي رحمه الله إلى صحة الخلافة بالوصية أيضاً، كما تصح بالاستخلاف.
الوجه الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته:
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة العهد بالخلافة أموراً: منها: براعة الاستهلال بذكر ما يتفق له، من معنى الخلافة والإمامة واشتقاقهما، وحال الولاية، ولقب العاهد والمعهود إليه، ولقب الخلافة، إلى غير ذلك مما سبق بيانه في الكلام على البيعات.
ومنها: أن ينبه على شرف رتبة الخلافة، وعلو قدرها، ورفعة شأنها، ومسيس الحاجة إلى الإمام، ودعاية الضرورة إليه، ونحو ذلك مما سبق في البيعات أيضاً.
ومنها: أن ينبه على اجتماع شروط الإمامة في المعهود إليه من حين صدور العهد بها من العاهد، فقد قال الماوردي: إنه تعتبر شروط الإمامة في المعهود إليه من وقت العهد، حتى لو كان المعهود إليه صغيراً أو فاسقاً وقت العهد وبالغاً عدلاً عند الموت، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته. قال الرافعي رحمه الله: وقد يتوقف في هذا. قال النووي رحمه الله في الروضة: لا توقف، والصواب ما قاله الماوردي.
ومنها: أن ينبه على اجتهاد العاهد وتروي نظره في حقية المعهود إليه؛ فقد قال الماوردي: وإذا أراد الإمام أن يعهد بالإمامة، فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بها، والأقوم بشروطها، فإذا تعين له الاجتهاد في أحد، عهد إليه.
ومنها: أن يشير إلى تقدم الاستخارة على العهد، وأن استخارته أدته إلى المعهود إليه؛ فإن الاستخارة أمرٌ مطلوب في كل أمر، خصوصاً أمر المسلمين وعموم الولاية عليهم، فإن اختيار الله للخلق خيرٌ من اختيارهم لأنفسهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ومنها: أن ينبه على أن عهده إليه بعد مشورة أهل الاختيار ومراجعتهم في ذلك، وتصويبهم له، خروجاً من الخلاف. فقد حكى الرافعي رحمه الله، وجهين فيما إذا كان المعهود إليه أجنبياً من العاهد ليس بولد ولا والدٍ، هل يجوز أن ينفرد بعقد البيعة له وتفويض العهد إليه ولا يستشير فيه أحداً؟ أصحهما الجواز؛ لأن العهد إلى عمر، رضي الله عنه، لم يوقف على رضا الصحابة رضوان الله عليهم، ولأن الإمام أحق بها، فكان اختياره فيها أمضى، وقوله فيها أنفذ.
وحكى الماوردي في جواز انفراد العاهد بالبيعة فيما إذا كان المعهود إليه والدً أو ولداً ثلاثة مذاهب: أحدها- ما اقتصر الرافعي، رحمه الله، على نسبته إلى الماوردي، ومقتضى كلامه ترجيحه: أنه يجوز الانفراد بعقدها للولد والوالد جميعاً؛ لأنه أميرٌ للأمة نافذ الأمر لهم وعليهم، فغلب حكم المنصب على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة طريقاً على أمانته، ولا سبيلاً إلى معارضته.
والثاني- أنه لا يجوز انفراده بها لولد ولا والد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلاً لها، فيصح منه حينئذ عقد البيعة، لأن ذلك منه تزكيةٌ له تجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم، والشهادة والحكم ممتنعان من الولد والوالد للتهمة، لما جبل عليه من الميل إليهما.
والثالث- أنه يجوز أن ينفرد بعقد لوالده دون ولده؛ لأن الطبع إلى الولد أميل، فأما عقدها لأخيه وغيره من الأقارب والمناسبين فكعقدها للأجانب في جواز الانفراد بها.
ومنها: أن ينبه على العلم بحياة المعهود إليه ووجوده إن كان غائباً، فقد قال الماوردي: إنه لو عهد إلى غائبٍ مجهول الحياة لم يصح عهده، وإن كان معلوم الحياة صح، ويكون موقوفاً على قدومه.
ومنها: أن ينبه على أن المعهود إليه منصوصٌ عليه بمفرده، أو وقع العهد شورى في جماعةٍ وأفضت الخلافة إلى واحدٍ منهم بإخراج الباقين أنفسهم منها، أو اختيار أهل الحل والعقد أحدهم، إذ يجوز للخليفة أن يعهد إلى اثنين فأكثر من غير تقديم البعض على البعض، ويختار أهل الاختيار بعد موته واحداً ممن عهد إليه، فإن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جعلها شورى في ستة، فقال: الأمر إلى علي وبإزائه الزبير بن العوام، وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقاص. فلما توفي عمر، رضي الله عنه، جعل الزبير أمره إلى علي، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعدٌ أمره إلى عبد الرحمن بن عوف، فخرج منها ثلاثةٌ، وبقيت شورى في عثمان وعلي، ثم بايع عليٌ عثمان. والمعنى في الشورى أنه لا يجوز أن تجعل الإمامة بعد العاهد في غير المعهود إليهم.
ومنها: أن ينبه على عدد المعهود إليهم وترتيبهم إن كان قد رتب الخلافة في أكثر من واحد، إذ يجوز أن يعهد إلى اثنين فأكثر على الترتيب. فلو رتب الخلافة في ثلاثة مثلاً- فقال: الخليفة بعدي فلان، فإذا مات، فالخليفة بعده فلان، فإن مات فالخليفة بعد فلان جاز وكانت الخلافة منتقلة إليهم على ما رتبها. ففي صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: استخلف على جيش مؤتة زيد بن حارثة- وقال: «إن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلاً»، فتقدم زيدٌ فقتل، فأخذ الراية جعفرٌ وتقدم فقتل، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة وتقدم فقتل، فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد. قال الماوردي: وإذا جاز ذلك في الإمارة جاز مثله في الخلافة. قال: وقد عمل بذلك في الدولتين من لم ينكر عليه أحدٌ من علماء العصر.
فعهد سليمان بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، ثم بعده إلى يزيد بن عبد الملك، وأقره عليه من عاصره من الناس، ومن لا تأخذه في الله لومة لائم.
ورتبها الرشيد في ثلاثةٍ من بنيه: الأمين، ثم المأمون، ثم المؤتمن، من غير مشورة من عاصره من فضلاء العلماء.
ولو قال العاهد: عهدت إلى فلان، فإن مات فلانٌ بعد إفضاء الخلافة إليه، فالخليفة بعده فلان، لم تصح خلافة الثاني، ولم ينعقد عهده بها؛ لأنه لم يعهد إليه في الحال، وإنما جعله ولي عهده بعد إفضاء الخلافة إلى الأول، وقد يموت قبل إفضائها إليه فلا يكون عهد الثاني بها منبرماً.
ومنها: أن ينبه على أن صدور العهد في حال نفوذ أمر العاهد وجواز تصرفه، فإنه لو أراد ولي العهد قبل موت العاهد أن يرد ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز؛ لأن الخلافة لا تستقر إلا بعد موت المستخلف. وكذا لو قال: جعلته ولي عهدٍ إذا أفضت الخلافة إلي لم يجز؛ لأنه ليس في الحال بخليفة، فلم يصح عهده بالخلافة.
ومنها: أن ينبه على قبول المعهود إليه العهد، فإنه إذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه، كان العهد موقوفاً على قبول المعهود إليه؛ فإن قبل صح العهد وإلا فلا، حتى لو امتنع من القبول بويع غيره. والعبرة في زمن القبول بما بين عهد العاهد وموته على الأصح، لتنتقل عنه الإمامة إلى المعهود إليه مستقرةً بالقبول المتقدم. وقيل: إنما يكون القبول بعد موت العاهد؛ لنه الوقت الذي يصح فيه نظر المعهود إليه.
ومنها: أن يورد من وصايا العاهد للمعهود إليه ما يليق به. وقد ذكر الماوردي أن الذي يلزمه من أمور الأمة عشرة أشياء: أحدها- حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وأنه إن نجم مبتدعٌ أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من الخلل، والأمة ممنوعةً من الزلل.
الثاني- تنفيذ الأحكام، بين المتشاجرين، وقطع الخصام، بين المتنازعين، حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث- حماية البيضة، والذب عن الحرم ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع- إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف والاستهلاك.
الخامس- تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلمٍ أو معاهدٍ دماً.
السادس- جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
السابع- جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير حيف ولا عسف.
الثامن- تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع- استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأحوال لتكون الأعمال بالكافة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذةٍ أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح. وقد قال تعالى: {يا دَاوُدُ إنَّا جعَلْنَاكَ خَلِيفةً في الأرْض فاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبعِ الْهَوى فيُضِلَّكَ عن سَبِل اللهِ}. فلم يقتصر الله تعالى على التفويض دون المباشرة، بل أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه. وقد قال صلى الله عليه وسلم «كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكم مَسْؤولٌ عن رَعِيَّته» ولله در محمد بن يزداد وزير المأمون، حيث قال مخاطباً له: [بسيط]
من كان حارس دنيا إنّه قمنٌ ** أن لا ينام وكلّ الناس نوّام

وكيف ترقد عينا من تضيّفه ** همّان من أمره حلٌّ وإبرام؟

وحينئذ فيجب على الكاتب أن يضمن هذه الأمور العشرة في وصايا المعهود إليه. وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف في وصية ولي العهد بالخلافة ومن في معناه من الملوك وولاة عهدهم هذه الأمور ممتزجةً بأمور أخرى من مهمات الملك وحسن تدبيره وسياسته.
قلت: إنما يحسن إيراد هذا كله في وصايا ولاة العهد إذا كان الأمر على ما كانت الخلافة عليه أولاً من عموم التصرف، أما الآن فالواجب أن يقتصر في وصاياهم على حسن التأتي في العهد بالسلطنة لمن يقوم بأعبائها، وأن يكون ما تقدم مختصاً وصايا الملوك في العهود عن الخلفاء.
الوجه الرابع فيما يكتب في الطرة:
وهو تلخيص ما يتضمنه العهد، وهذه نسخة طرة أنشأتها لينسج على منوالها، وهي: هذا عهدٌ إماميٌ قد علت جدوده، وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده، وفصلت الجواهر قلائده ونظمت بنفيس الدر عقوده. من عبد الله ووليه الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر، بالخلافة المقدسة، لولده السيد الجليل ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين، أبي الفضل العباس، بلغه الله فيه غاية الأمل، وأقر به عين الأمة كما أقر به عين أمير المؤمنين وقد فعل. على ما شرح فيه.
الوجه الخامس فيما يكتب لأولياء العهد من الألقاب:
وهو كما سيأتي في الطريقة الثانية من المذهب الأول مما يكتب في متن العهد من كلام المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أنه يقال فيه: الأمير السيد الجليل، ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين، أبي فلان فلان. وفي المذهب الثالث فيما كتب به للمستوثق بن المستكفي ما يوافقه، وقد تقدم أنه لا يقع في ألقابهم إطنابٌ، ولا تعدد ألقاب، فليقتصر على ذلك أو ما يشابهه.
الوجه السادس فيما يكتب في متن العهد:
وفيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ هذا مثل: هذا ما عهد به فلان لفلان أو هذا عهدٌ من فلان لفلان أو هذا كتابٌ أكتتبه فلان لفلان ونحو ذلك.
وللكتاب فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: طريقة المتقدمين:
وهي أن لا يأتي بخطبة في أثناء العهد، ولا يتعرض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه، أو يتعرض لذلك باختصار، ثم يأتي بالوصايا، ثم يختمه بالسلام أو بالدعاء أو بغير ذلك مما يناسب. وعلى ذلك كانت عهود السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، اتباعاً للصديق رضي الله عنه فيما كتب به لعمر بن الخطاب، كما تقدمت الإشارة إليه في الاستشهاد.
ونسخته فيما رواه البيهقي في السنن واقتصر عليه الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل.
هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذلك ظني به، وإن بدل أو غير فلا علم لي بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئٍ ما أكتسب من الإثم، {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون}.
وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل عن المدائني أنه حين دعا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، لكتابة العهد بالخلافة بعده قال: اكتب هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا نازحاً عنها وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يتوب الفاجر، ويؤمن الكافر، ويصدق الكاذب، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وقد استخلف- ثم دهمته غشيةٌ فكتب عثمان: عمر بن الخطاب. فلما أفاق، قال: أكتبت شيئاً؟ قال نعم عمر بن الخطاب. قال: رحمك الله، أما إنك لو كتبت نفسك لكنت أهلاً لها، أكتب قد استخلف عمر بن الخطاب ورضيه لكم، فإن عدل فذلك ظني به ورأيي فيه، وإن بدل فلكل نفسٍ ما كسبت وعليها ما اكتسبت، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
وعلى هذه الطريقة كتب عهد عمر بن عبد العزيز بالخلافة عن سليمان بن عبد الملك، ثم من بعده إلى أخيه يزيد بن عبد الملك.
وهذه نسخته فيما ذكره ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء:
هذا ما عهد به عبد الله سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، عهد أنه يشهد لله عز وجل بالربوبية والوحدانية، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، بعثه إلى محسني عباده بشيراً، وإلى مذنبيهم نذيراً، وأن الجنة والنار مخلوقتان حقاً، خلق الجنة رحمةً وجزاءً لمن أطاعه، والنار نقمة وجزاءً لمن عصاه، وأوجب العفو جوداً وكرماً لمن عفا عنه، وأن إبليس في النار، وأن سليمان مقرٌ على نفسه بما يعلم الله من ذنوبه، وبما تعلمه نفسه من معصية ربه، موجباً على نفسه استحقاق ما خلق من النقمة، راجياً لنفسه ما خلق من الرحمة ووعد من العفو والمغفرة، وأن المقادير كلها خيرها وشرها مقدورة بإرادته، مكونةٌ بتكوينه، وأنه الهادي فلا مغوي ولا مضل لمن هداه وخلقه لرحمته، وأنه يفتن الميت في قبره بالسؤال عن دينه ونبيه الذي أرسل إلى أمته، لا منجى لمن خرج من الدنيا إلى الآخرة من هذه المسألة إلا لمن استثناه عز وجل في علمه. وسليمان يسأل الله الكريم بواسع فضله، وعظيم منه، الثبات على ما أسر وأعلن من معرفة حقه وحق نبيه عند مسألة رسله، والنجاة من هول فتنة فتانيه. ويشهد أن الميزان يوم القيامة حقٌ يقين، يزن سيئات المسيئين، وحسنات المحسنين، ليري عباده من عظيم قدرته، ما أراده من الخير لعباده بما لم يكونوا يحتسبون، وأن من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه يومئذٍ فأولئك هم الخاسرون. وأن حوض محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم المحشر والموقف للعرض حقٌ، وأن عدد آنيته كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبداً. وسليمان يسأل الله بواسع رحمته أن لا يرده عن حوض نبيه عطشان. وأن أبا بكر وعمر خير هذه الأمة، بعد نبينا، والله يعلم بعدهما حيث الخير، وفيمن الخير من هذه الأمة، وأن هذه الشهادة كلها المذكورة في عهده هذا يعلمها الله من سره وإعلانه وعقد ضميره، وأنه بها عبد ربه في سالف أيامه وماضي عمره، وعليها أتاه يقين ربه، وتوفاه أجله، وعليها يبعث بعد موته إن شاء الله، وأن سليمان كانت له بين هذه الشهادة بلايا وسيئاتٌ لم يكن له عنها محيد ولا بد، جرى بها المقدور من الرب النافذ إلى إتمام ما حد، فإن يعف ويصفح فذاك ما عرف منه قديماً ونسب إليه حديثاً، وتلك صفته التي وصف بها نفسه في كتابه الصادق، وكلامه الناطق، وإن يعاقب وينتقم فبما قدمت يداه، وما الله بظلام للعبيد. وأن سليمان يحرج على من قرأ عهده هذا وسمع ما فيه من حكمة أن ينتهي إليه في أمره ونهيه، بالله العظيم، ومحمدٍ رسوله الكريم، وأن يدع الإحن المضغنة، ويأخذ بالمكارم المدجنة، ويرفع يديه إلى الله بالضمير النضوح والدعاء الصحيح، والصفح الصريح، يسأله العفو عني، والمغفرة لي، والنجاة من فزعي، والمسألة في قبري، لعل الودود، أن يجعل منكم مجاب الدعوة بما من الله علي من صفحه يعود، إن شاء الله، وأن ولي عهد سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين، وصاحب أمره بعد موته، في جنده ورعيته وخاصته وعامته، وكل من استخلفني الله عليه، واسترعاني النظر فيه، الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن عمي، لما بلوت من باطن أمره وظاهره، ورجوت الله بذلك وأردت رضاه ورحمته إن شاء الله. ثم من بعده تسلم إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان إن بقي بعده، فإني ما رأيت منه إلا خيراً ولا أطلعت له على مكروه. وصغار ولدي وكبارهم إلى عمر، إذ رجوت أن لا يألوهم رشداً وصلاحاً، والله خليفتي عليهم وعلى جماعة المؤمنين والمسلمين وهو أرحم الراحمين، واقرأوا عهدي عليكم السلام ورحمة الله. ومن أبى أمري هذا أو خالف عهدي هذا- وأرجو أن لا يخالفه أحدٌ من أمة محمد- فهو ضالٌ مصلٌ يستعتب، فإن أعتب وإلا فإني لمن صاحب؟ عهدي فيهم بالسيف السيف والقتل القتل، فإنهم مستوجبون لهم، وهم لهيبته ملقحون، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله القديم الإحسان.
تم ذلك والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله.
وعلى نحوٍ من ذلك كتب المأمون العباسي عهد علي بن موسى العلوي المعروف بالرضي بالخلافة بعده.
وهذه نسخته فيما ذكر صاحب العقد: هذا كتابٌ كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين، بيده، لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده:
أما بعد، فإن الله عز وجل اصطفى الإسلام ديناً، واصطفى له من عباده رسلاً دالين عليه، وهادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم على فترةٍ من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاعٍ من الوحي، واقترابٍ من الساعة، فختم الله به النبيين وجعله شاهداً لهم، ومهيمناً عليهم، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ. فأحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به ونهى عنه، لتكون له الحجة البالغة على خلقه، وليهلك من هلك عن بينةٍ، ويحيا من حي عن بينةٍ وإن الله لسميعٌ عليم. فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده صلى الله عليه. فلما انقضت النبوة وختم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، الوحي والرسالة، جعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين، بالخلافة وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي تقام بها فرائض الله وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه. فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظها واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبل وحقن الدماء، وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي إخلال ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم، واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة. فحقٌ على من استخلفه الله في أرضه، وأتمنه على خلقه أن يؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ويعد ل فيما الله واقفه عليه وسائله عنه، ويحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود عليه السلام: {يا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفةً في الأرض فاحْكُمْ بينَ الناسِ بالحقِّ ولا تَتَّبعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شديدٌ بما نَسُوا يَوْمَ الحِسَاب}. وقال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أجمَعِينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون}. وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: لو ضاعت سخلةٌ بجانب الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها. وأيم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله، فيما بين الله وبينه، لمتعرضٌ لأمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة، وبالله الثقة، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق مع العصمة، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة. وانظر الأئمة لنفسه، وأنصهم في دينه وعباده وخلافته في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه عليه السلام في مدة أيامه، واجتهد وأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علماً لهم، ومفزعاً في جمع ألفتهم، ولم شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فإن الله عز وجل جعل العهد بالخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله؛ وألهم خلفاءه من توسيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة، وشملت منه العافية، ونقض الله بذلك مر أهل الشقاق والعداوة والسعي في الفرقة والرفض للفتنة، ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقتها، وثقل محملها وشدة مؤونتها، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمله منها، فأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة بهني العيش، علماً بما الله سائله عنه، ومحبةً أن يلقى الله مناصحه في دينه وعباده، ومختاراً لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام بأمر الله وحقه، مناجياً لله بالاستخارة في ذلك، ويسأله إلهامه ما فيه رضاه وطاعته في ليله ونهاره، ومعملاً في طلبه والتماسه من أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره، ومقتصراً فيمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغاً في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم بمعرفته، وابتلى أخبارهم مشاهدة، وكشف ما عندهم مساءلة، فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه وبلاده، من البيتين جميعاً علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس، وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن عليه متفقةً والكلمة فيه جامعة. ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً وناشئاً، وحدثاً ومكتهلاً، فعقد له بالعقد والخلافة إيثاراً لله والدين، ونظراً للمسلمين، وطلباً للسلامة وثبات الحجة والنجاه في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين. ى أمورهم بمعرفته، وابتلى أخبارهم مشاهدة، وكشف ما عندهم مساءلة، فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه وبلاده، من البيتين جميعاً علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس، وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن عليه متفقةً والكلمة فيه جامعة. ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً وناشئاً، وحدثاً ومكتهلاً، فعقد له بالعقد والخلافة إيثاراً لله والدين، ونظراً للمسلمين، وطلباً للسلامة وثبات الحجة والنجاه في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.
ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وخاصته، وقواده، وخدمه، فبايعوه مسرعين مسرورين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك به رحماً وأقرب قرابة، وسماه الرضي إذ كان رضياً عند أمير المؤمنين.
فبايعوا معشر بيت أمير المؤمنين ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده، وعامة المسلمين الرضي من بعده، على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعةً مبسوطةً إليها أيديكم، منشرحةً لها صدوركم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من نصاحته في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائده في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، ورغم عدوكم، واستقامة أموركم. وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمر إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه، إن شاء الله تعالى.
وعلى هذه الطريقة كتب الوزير أبو حفص بن برد عهد الناصر لدين الله عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر العامري، عن المؤيد بالله هشام بن الحكم الأموي، الخليفة بالأندلس. وهذه نسخته:
هذا ما عهد هشامٌ المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه، بيعةً تامةً، بعد أن أنعم النظر وأطال الاستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة، وعصب به من أمر المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدوره به، ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوي إليه، وملجأ تنعطف عليه- أن يكون يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطاً ساهياً عن أداء الحق إليها. ويغمص عند ذلك من أحياء قريش وغيرها، من يستحق أن يسند هذا الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه، ويستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطراح الهوى والتحري للحق، والتزلف إلى الله جل جلاله بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب عالماً أن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، وموقناً أن لا وسيلة إليه أزكى من الدين الخالص، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوض إليه الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلو منصبه، مع تقاه وعفافه، ومعرفته وحزمه ونقاوته، من المأمون الغيب، الناصح الجيب النازح على كل عيب، ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين- أيده الله- ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، سابقاً في الحلبات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، يجذب بضبعه إلى أرفع منازل الطاعة ويسمو بعينيه إلى أعلى درج النصيحة ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه، فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه، مع أن أمير المؤمنين- أيده الله- بما طالعه من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، يرى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص بتحقيق ما أسنده أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقُومُ الساعةُ حتَّى يَخْرُجَ رجُلٌ من قَحْطانَ يَسُوقُ الناسَ بعَصَاه». فلما استوى له الاختيار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهباً، ولا إلى غيره معدلاً، صرح إليه في تدبير الأمور في حياته، وفوض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعاً راضياً مجتهداً متخيراً غير محابٍ له ولا مائل بهوادة إليه ولا شرك نصح الإسلام وأهله فيه وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها أن رأى ذلك في بقاء أمير المؤمنين أعزه الله بعده وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه مثنويةً ولا خياراً، وأعطى على الوفاء به به في سره وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه، وذمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه، أن لا يبدل، ولا يغير، ولا يحول، ولا يزول، أشهد الله على ذلك والملائكة وكفى بالله شهيداً. وأشهد من أوقع اسمه في هذا، وهو جائز الأمر، ماضي القول والفعل، بمحضر من ولي عهده المأمون ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله، وقبوله ما قلده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة تسعٍ وتسعين وثلثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم بذلك.
الطريقة الثانية: طريقة المتأخرين من الكتاب:
أن يأتي بالتحميد في أثناء العهد، ويأتي من ألقاب ولي العهد بما يناسب على الاختصار، وعليها اقتصر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف فقال: واعلم أن عهود الخلفاء عن الخلفاء لم تجر عادة من سلف من الكتاب أن يستفتحها إلا بما يذكر، وهو: هذا ما عهد به عبد الله ووليه فلانٌ أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين، عهد إلى ولده، أو إلى أخيه الأمير السيد الجليل، ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين أبي فلان فلان، أيده الله بالتمكين، وأمده بالنصر المبين، وأقر به عين أمير المؤمنين. ثم ينفق كل كاتبٍ بعد هذا على قدر سعته، ثم يقول:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويصلي على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم ويخطب في ذلك خطبة يكثر فيها التحميد وينتهي فيه إلى سبعة، ثم يأتي بعد ذلك بما يناسب من القول، يصف فكر الذي يعهد فيمن بعده، ويصف المعهود إليه بما يليق من الصفات الجليلة. ثم يقول: عهد إليه وقلده بعده جميع ما هو مقلده، لما رآه من صلاح الأمة، أو صلاح الخلق، بعد أن استخار الله تعالى في ذلك، ومكث مدةً يتدبر ذلك ويروي فيه فكره وخاطره، ويستشير أهل الرأي والنظر، فلم ير أقوم منه بأمور الأمة ومصالح الدنيا والدين، ومن هذا ومثله. ثم يقال: إن المعهود إليه قبل ذلك منه، ويأتي في ذلك بما يليق من محاسن العبارة وأحاسن الكلام.
قلت: ولم أظفر بنسخة عهدٍ على هذا الأسلوب الذي ذكره المقر الشهابي، وقد أنشأت عهداً على الطريقة التي أشار إليها امتحاناً للخاطر لأن يكون عن الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي الفتح أبي بكر، خليفة العصر، لولده العباس، ليكون أنموذجاً ينسج على منواله.
ومن غريب الاتفاق أني أنشأته في شهور سنة إحدى وثمانمائة امتحاناً للخاطر كما تقدم، وضمنته هذا الكتاب وتمادى الحال على ذلك إلى أن قبض الله تعالى الإمام المتوكل- قدس الله تعالى روحه- في سنة ثمان وثمانمائة، فأجمع أهل الحل والعقد على مبايعته بالخلافة، فبايعوه وحقق الله تعالى ما أجراه على اللسان من إنشاء العهد باسمه في الزمن السابق، ثم دعتني داعيةٌ إلى التمثل بين يديه الشريفتين في مستهل شهر ذي القعدة الحرام سنة تسع وثمانمائة، فقرأته عليه من أوله إلى آخره، وهو مصغٍ له مظهرٌ الابتهاج به، وأجاز عليه الجائزة السنية. ثم أنشأت له رسالةً وضمنته إياها وأودعت بخزانته العالية عمرها الله بطول بقائه.
وهذه نسخته: هذا عهدٌ سعيد الطالع ميمون الطائر، مبارك الأول جميل الأوسط حميد الآخر، تشهد به حضرات الأملاك، وترقمه كف الثريا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك، وتباهي به ملوك الأرض ملائكة السماء، وتسري بنشره القبول إلى الأقطار فتنشر له بكل ناحيةٍ علماً، وتطلع به سعادة الجد من ملوك العدل في كل أفق نجماً، وترقص من فرحها الأنهار فتنقطها شمس النهار بذهب الأصيل على صفحات الماء، عهد به عبد الله ووليه أبو عبد الله محمدٌ المتوكل على الله أمير المؤمنين إلى ولده السيد الجليل عدة الدين وذخيرته، وصفي أمير المؤمنين من ولده وخيرته، المستعين بالله أبي الفضل العباس بلغ الله فيه أمير المؤمنين غاية الأمل، وأقر به عين الخلافة العباسية كما أقر به عين أبيه وقد فعل.
أما بعد، فالحمد لله حافظ نظام الإسلام وواصل سببه، ورافع بيت الخلافة وماد طنبه، وناظم عقد الإمامة المعظمة في سلك بني العباس وجاعلها كلمةً باقيةً في عقبه.
والحمد لله الذي عدق أمر الأمة منهم بأعظمهم خطراً، وأرفعهم قدراً، وأرجحهم عقلاً وأوسعهم صدراً، وأجزلهم رأياً وأسلمهم فكراً.
والحمد لله الذي أقر عين أمير المؤمنين بخير ولي وأفضل ولد، وشد أزره بأكرم سيد وأعز سند، وصرف اختياره إلى من إذا قام بالأمر بعده قيل هذا الشبل من ذاك الأسد.
والحمد لله الذي جمع الآراء على اختيار العاهد فما قلوه ولا رفضوه، وجبل القلوب على حب المعهود إليه فلم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه.
والحمد لله الذي جدد للرعية نعمةً مع بقاء النعمة الأولى، وأقام لأمر الأمة من بني عم نبيه المصطفى الأولى بذلك فالأولى، واختار لعهد المسلمين من سبقت إليه في الأزل إرادته فأصبح في النفوس معظماً وفي القلوب مقبولاً.
والحمد لله الذي أضحك الخلافة العباسية بوجود عباسها، وأطاب بذكره رياها فتعطر الوجود بطيب أنفاسها، ورفع قدره بالعهد إليه إلى أعلى رتبة منيفة، وخصه بمشاركة جده العباس في الاسم والكنية ففاز بما لم يفز به قبله منهم ستة وأربعون خليفة.
والحمد لله الذي أوجب على الكافة طاعة أولي الأمر من الأئمة، وألزمهم الدخول في بيعة الإمام والانقياد إليه ولو كان عبداً أسود فكيف بمن أجمع على سؤدده الأمة، وأوضح السبيل في التعريف بمقام الآل والعترة النبوية؟ {ثم لا يكن أمركم عليكم غمة}.
يحمده أمير المؤمنين على ما منحه من طيب أرومةٍ سمت أصلاً وزكت فرعاً، وحباه من شرف محتدٍ راق نظراً وشاق سمعاً، ووصله به من نعم آثرت نفاعاً وأثرت نفعاً، ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يتوارثونها كالخلافة كابراً عن كابر، ويوصي بها أبداً الأول منهم الآخر، ويؤذن قيامهم بنصرتها أنهم معدن جوهرها النفيس ونظام عقدها الفاخر، ويشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الذي خص عمه العباس بكريم الحباء وشريف الإنافة، ونبه على بقاء الأمر في بنيه بقولٍ ضل من أظهر عناده أو أضمر خلافه، حيث أسر إليه: «ألا أبشرك يا عم؟ بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تعم بركتها الولد والوالد، ويشمل معروفها المعهود إليه ويعرف شرفها العاهد، ويعترف بفضلها المقر ولا يسع إنكارها الجاحد، ما نوه بذكر الخلافة العباسية على أعواد المنابر، وخفقت الرايات السود على عساكر المواكب ومواكب العساكر، وسلم تسليماً كثيراً.
هذا وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، وكل امرئ محمولٌ على نيته، مخبرٌ بظاهره عن جميل ما أكنه في صدره وما أسره في طويته، والإمام منصوبٌ للقيام بأمر الله تعالى في عباده، مأمورٌ بالنصيحة لهم جهد طاقته وطاقة اجتهاده، مطلوبٌ بالنظر في مصالحهم في حاضر وقتهم ومستقبله وبدء أمرهم ومعاده، ومن ثم اختلفت آراء الخلفاء الراشدين في العهد بالخلافة وتباينت مقاصدهم، وتنوعت اختياراتهم بحسب الاجتهاد واختلفت مواردهم، فعهد الصديق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه متثبتاً، وتركها عمر شورى في ستة وقال: أتحمل أمركم حياً وميتاً؟! وأتى رضي الله عنه لكلٍ من المذهبين بما أذعن له الخصم وسلم، فقال: إن أعهد فقد من هو خيرٌ مني، أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خيرٌ مني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الخلفاء في ذلك بسنتهما، ومشوا فيه على طريقتهما، فمن راغبٍ عن العهد وراغبٍ فيه، وعاهدٍ إلى بعيدٍ وآخر إلى ابنه أو أخيه، كلٌ منهم بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده، وتقوى عليه عزيمته ويترجح لديه اعتماده.
ولما كان أمير المؤمنين- أحسن الله مآبه- قد نور الله عين بصيرته، وخصه بطهارة سره وصفاء سريرته، وآتاه الله الملك والحكمة، وأقامه لمصالح الرعية وصلاح أمر الأمة، وعلمه مما يشاء فكان له من علم الفراسة أوفر قسم، واصطفاه على أهل عصره وزاده بسطةً في العلم والجسم، فلا يعزم أمراً إلا كان رشاداً، ولا يعتمد فعلاً إلا ظهر سداداً، ولا يرتئي رأياً إلا ألفي صواباً، ولا يشير بشيء إلا حمدت آثاره بدايةً ونهايةً واستصحاباً، ومع ذلك فقد بلا الناس وخبرهم، وعلم بالتجربة حالهم وخبرهم، واطلع بحسن النظر على خفايا أمورهم، وما به مصلحة خاصتهم وجمهورهم، وترجح عنده جانب العهد على جانب الإهمال، ورأى المبادرة إليه أولى من الإمهال، ولم يزل يروي فكرته، ويعمل رويته، فيمن يصلح لهذا الأمر بعده، وينهض بأعبائه الثقيلة وحده، ويتبع فيه سبله ويسلك طرائقه، ويقتفي في السيرة الحسنة أثره ويشيم في العدل بوارقه، ويقبل على الأمر بكليته ويقطع النظر عما سواه، ويتفرغ له من كل شاغلٍ فلا يخلطه بما عداه.
وقد علم أن الأحق بأن يكون لها حليفاً من كان بها خليقاً، والأولى بأن يكون لها قريناً من كان بوصلها حقيقاً، والأجدر أن يكون لديها مكيناً من اتخذ معها يداً وإلى مرضاتها طريقاً، والأليق بمنصبها الشريف من كان بمطلوبها ملياً، والأحرى بمكانها الرفيع من كان بمقصودها وفياً، والأوفق لمقامها العالي من كان خيراً مقاماً وأحسن ندياً، وكان ولده السيد الأجل أبو الفضل المشار إليه هو الذي وجهت الخلافة وجهها إلى قبلته، وبالغت في طلبه وألحت في خطبته، على أنه قد أرضع بلبانها وربي في حجرها، وانتسب إليها بالبنوة فضمته إلى صدرها، وكيف لا تتشبث بحباله، وتتعلق بأذياله، وتطمع في قربه، وتتغالى في حبه، وتميل إلى أنسه، وتراوده عن نفسه، وهو كفؤها المستجمع لشرائطها المتصف بصفاتها، ونسيبها السامي إلى أعاليها الراقي على شرفاتها، إذ هو شبلها الناشئ في آجامها، بل أسدها الحامي لحماها ومجيرها الوافي بذمامها، وفارسها المقدم في حلبة سباقها ووارثها الحائز لجميع سهامها، وحاكمها الطائع لأمرها، ورشيدها المأمون على سرها، وناصرها القائم بواجبها، ومهديها الهادي إلى أفضل مذاهبها؟ قد التحف من الخلافة بردائها، وسكن من القلوب في سويدائها، وتوسمت الآفاق تفويض الأمر إليه بعد أبيه فظهر الخلوق في أرجائها، واتبع سيرة أبيه في المعروف واقتفى أثره في الكرم، وتشبه به في المفاخر ومن يشابه أبه فما ظلم وتقبل الله دعاء أبيه فوهب له من لدنه ولياً، وأجاب نداءه فيه فمكن له في الأرض وآتاه الحكم صبياً، فاستوجب أن يكون حينئذٍ للمسلمين ولي عهدهم، والياً على أمورهم في حلهم وعقدهم، ومتكفلاً بالأمر في قربه وبعده، معيناً لأبيه في حياته خليفةً له من بعده، وأن يصرح له بالاستخلاف ويوضح، ويتلو عليه بلسان التفويض اخلفني في قومي وأصلح.
واقتضت شفقة أمير المؤمنين ورأفته، ورفقه بالأمة ورحمته، أن ينصب لهم ولي عهدٍ يكون بهذه الصفات متصفاً، ومن بحره الكريم مغترفاً، ومن ثمار معروفه المعروف مقتطفاً، ولمنهله العذب وارداً، وعلى بيته الشريف وسائر الأمة بالخير عائداً، فلم يجد من هو مستكملٌ لجميعها، مستوعبٌ لأصولها وفروعها، وهو بمطلوبها أملى، وعلى قلوب الرعية أحلى، وللغليل أشفى، وبالعهد الجميل أوفى، من ولده المشار إليه. فاستشار في ذلك أهل الحل والعقد من قضاته وعلمائه، وأمرائه ووزرائه، وخاصته وذويه، وأقاربه وبنيه، وأعيان أهل العصر وعامته، وجمهوره وكافته، فرأوه صواباً، ولم يعرهم فيه ظنةٌ ولا مستراباً، ولا وجد أحدٌ منهم إلى باب غيره طريقاً ولا إلى طريق غيره باباً، فاستخار الله تعالى فيه فأقبل خاطره الشريف عليه، وكرر الاستخارة فلم يجد عنه محيداً إلا إليه.
فلما رأى أن ذلك أمرٌ قد انعقد عليه الإجماع قولاً وفعلاً، وعدم فيه المحالف بل لم يكن أصلاً، حمد الله تعالى وأثنى عليه، وسأله التوفيق ورغب إليه، وجدد الاستخارة وعهد إليه بأمر الأمة، وقلده ما هو متقلده من الخلافة المقدسة بعده على عادة من تقدمة من الخلفاء الماضين، وقاعدة من سلف من الأئمة المهديين، وفوض إليه ما هو من أحكامها ولوازمها، وأصولها ومعالمها، من عهدٍ ووصاية، وعزل وولاية، وتفويضٍ وتقليد، وانتزاعٍ وتخليد، وتفريقٍ وجمع، وإعطاءٍ ومنع، ووصل وقطع، وصلة وإدرار، وتقليلٍ وإكثار، جزئيها وكليها، وخفيها وجليها، ودانيها وقاصيها، وطائعها وعاصيها، تفويضاً شرعياً، تاماً مرضياً، جامعاً لأحكام الولاية جمعاً يعم كل نطاق، ويسري حكمه في جميع الآفاق، ويدخل تحته سائر الأقاليم والأمصار على الإطلاق، لا يغير حكمه، ولا يمحى رسمه، ولا يطيش سهمه، ولا يأفل نجمه.
قبل المعهود إليه- أعلى الله مقامه- ذلك بمحضر من القضاة والحكام، والعلماء الأعلام، ولزم حكمه وانبرم، وكتب في سجلات الأفلاك وارتسم، وحملت رسائله مع برد السحاب فطافت به على سائر الأمم، وهو- أبقاه الله- مع ما طبعت عليه طباعه السليمة، وجبلت عليه سجاياه الشريفة وأخلاقه الكريمة، قد تلقى عن أمير المؤمنين من شريف الآداب ما غذي به في مهده، وتلقف منه من حسن الأدوات ما يرويه بالسند عن أبيه وجده، مما انطبع في صفاء ذهنه الصقيل وانتقش في فهمه، واختلط من حال طفوليته بدمه ولحمه وعظمه، حتى صار طبعاً ثانياً، وخلقاً على ممر الزمان باقياً، واجتمع لديه الغريزي فكان أصلاً ثابتاً، وفرعاً على ذلك الأصل القوي نابتاً، لكن أمير المؤمنين يوصيه تبركاً، ويشرح له ما يكون به- إن شاء الله- متمسكاً، والمرء إلى الأمر بالخير مندوب، ووصية الرجل لبنيه مطلوبةٌ فقد قال تعالى: {ووَصَّى بِهَا إبْراهِيمُ ويَعْقُوبُ}.
فعليك بمراقبة الله تعالى فمن راقب الله نجا، واجعل التقوى رأس مالك، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً والجأ إلى الحق فقد فاز من إلى الحق لجا، وكتاب الله هو الحبل المتين، والكتاب المبين، والمنهج القويم، والسبيل الواضح والصراط المستقيم، فتمسك منه بالعروة الوثقى، واسلك طريقته المثلى واهتد بهديه فلا تضل ولا تشقى، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عليك بالاقتداء بأفعالها الواضحة، والإصغاء لآثار أقوالها الشارحة، عالماً بأن الكتاب والسنة أخوان لا يفترقان، ومتلازمان بحبل التباين لا يعتلقان، والبلاد والرعايا فحطهما بنظرك ما استطعت، وتثبت في كل قطع ووصل فأنت مسؤول عن كل ما وصلت وقطعت، والآل والعترة النبوية ففهما حق القرابة منك ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أشرقت به، واعلم أنك إذا أكرمت أحداً منهم فإنما أكرمته بسببه، واتبع في السيرة سيرة آبائك الخلفاء الراشدين لا تزغ عنها، ولا تعمل إلا بها وبما هو- إن استطعت- خيرٌ منها، واقف في المعروف آثارهم المقدسة لتحوي من المآثر ما حووا، واحذ حذوهم في طريقهم المباركة وابن المجد كما بنوا، وأحي من العمل سنة سلفك المصطفين الأخيار، واحرص أن تكون من الأئمة الذين يظلهم الله تحت عرشه، يوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وأسلف خيراً تذكر به على ممر الليالي، وينتظم ذكره في عقود الأيام كما تنتظم في السلك اللآلي، وليكن قصدك وجه الله ليكون في نصرتك فإن من كان الله تعالى في نصرته لا يبالي، ولتعلم حق اليقين أن حسنة الإمام تضاعف بحسب ما يترتب عليها من المصالح أو يتجدد بسببها، وسيئته كذلك فمن سن سيئةً كان عليه إثمها وإثم من عمل بها، ودر مع الحق كيف دار ومل معه حيث مال، واعلم بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال، ولا تخطر ببالك أن هذا الأمر انتهى إليك بقوة، أو يغرك ما قدمناه من الثناء عليكم فالتأثر بالمدح يخل بالمروة، ولا تتكل على نسبك فمن أطاع الله أدخله الجنة ولو كان عبداً حبشياً، ومن عصاه أدخله النار ولو كان هاشمياً قرشياً، واستنصر الله ينصرك واستعن به يكن لك عوناً وظهيراً، واستهده يهدك وكفى بربك هادياً ونصيراً وكن من الله خائفاً ومن مكره من المشفقين، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، ووصيته تملى عليك، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين والله تعالى يبلغه منك أملاً، ويحقق فيك علماً ويزكي بك عملاً، والاعتماد على الخط المقدس الإمامي المتوكلي- أعلاه الله تعالى- أعلاه، حجةٌ فيه إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني: أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ من فلان إلى فلان:
كما يكتب في المكاتبات ثم يأتي بالبعدية ويأتي بما يناسبه مما يقتضيه الحال من ذكر الولاية، ووصف المتولي، واختيار المولي له ونحو ذلك، ثم قاعدة كتابهم أنهم يأتون بعد ذلك بالتحميد في أثناء العهد.
وهذه نسخة عهدٍ من ذلك، كتب بها عن الحافظ لدين الله الفاطمي، لولده حيدرة بأن يكون ولي عهد الخلافة بعده، وليس فيها تعرض لتحميد أصلاً، وهو:
من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى ولده ونجله، وسلالته الطاهرة ونسله، والمجمع على شرفه والعامل بمرضاة الله في قوله وفعله، وعقده وحله، الأمين أبي تراب حيدرة ولي عهد أمير المؤمنين، عليه السلام.
سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلم تسليماً.
أما بعد، فإن الله تعالى لبديع حكمته، ووسيع رحمته، استودع خلفاءه من خلقه وبرأه، واستكفى أمناءه من صوره وذرأه، ورتبهم مرتبة النفوس من الأجساد، ونزلهم بمنزلة الضياء من الأزناد، وجعلهم مستخدمين لأفكارهم في مصالح البرية التي غدت في أمانهم، وحصلت في ضمانهم، فظلت في ذمامهم، وسعدت في عز مقامهم وظل أيامهم؛ لأنهم نصبوا للنظر فيما جل ودق، وتعبوا لراحة الكافة تعباً صعب وعظم وشق، وكان ذلك سراً من أسرار الحكمة، وضرباً من افضل تدبير الأمة، إذ لو ساوى بين الرئيس والمرؤوس، والسائس والمسوس. لاختلط الخصوص بالعموم، ولم يبق فرقٌ بين الإمام والمأموم.
وقد استخلص الله أمير المؤمنين من أشرف أسرة وأكرم عصابة، وأيده في جميع آرائه بالحزامة والجزالة والأصالة والإصابة، وقضى لأغراضه أن يكون السعد لها خادماً، وحتم لمقاصده أن يصاحبها التوفيق ولا ينفك لها ملازماً، وجمع له ما تفرق في الخليفة من المفاخر والمناقب، وألهمه النظر في حسن الخواتم وحميد العواقب.
ولما كان ولي عهد أمير المؤمنين أكبر أبناء أمير المؤمنين، والمنتهي لأشرف المراتب من تقادم السنين، وقد استولى على الفخر باكتسابه وانتسابه، وتصدت له مخطوبات الرتب ليحوزها باستحقاقه واستيجابه، وله من فضيلة ذاته ما يدل على النبإ العظيم، وعليه من أنوار النبوة ما يهتدي به الساري في الليل البهيم، وحين حوى تالد الفخر وطارفه ولم يستغن بالقديم عن الحديث ولا بالحديث عن القديم، والصفات إذا اختلفت أربابها لا تقع إلا دونه، والثواب الجزيل مما أعده الله للذين يخلصون فيه ويتولونه، وليفخر بأن خص من العناية الملكوتية بالحظ الأجزل، وليتسمح على البرايا ليكون ممدوحاً بالكتاب المنزل، وليبذخ فإن وصفه لا تبلغ غايته وإن استخدمت فيه الفكر، وليبجح فإن فضله لا يدرك حقيقةً إلا إذا تليت السور، فأمتعه الله بمواهبه لديه وأمتع أمير المؤمنين به، وأجرى أموره عاجلاً وآجلاً بسببه.
رأى أمير المؤمنين أن يختصه بولاية عهد أمير المؤمنين تمييزاً له بهذا النعت الشريف، وسموا به إلى ما يجب لمجده الشامخ ومحله المنيف، واقتداءً بأسلافه الأئمة الأطهار فيما يشرفون به أبناءهم الأكرمين، وتخصيصاً له بما يبقى فخره على متجدد الأزمان ومتطأول السنين. وأمر أمير المؤمنين أن يتخير من رجال دولته، ووجوه أجناده وشيعته، طائفةٌ يكون إليه انتماؤها، وإلى شرف هذا النعت انتسابها واعتزاؤها، فتوسم بالطائفة العهدية، وتحظى إذا أخلصت في الولاية بالسعادة الدائمة الأبدية، وتظل موقوفةً على خدمته، متصرفةً على أوامره وأمثلته، منتهيةً في طاعته إلى أغراضه ومآربه، وملازمةً للازم المتعين من ملازمة الخدمة في مواكبه، والله تعالى يجعل ما رآه أمير المؤمنين من ذلك كافلاً بالخيرات، ضامناً لشمول المنافع وعموم البركات، إن شاء الله تعالى. والسلام على ولي عهد أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
وهذه نسخةٌ بولاية العهد من خليفةٍ لولده بالخلافة على هذه الطريقة، من إنشاء القاضي الفاضل، أتى فيها بالتحميد بعد التصدير ثلاث مرات، وهي: من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني إلى فلانٍ الفلاني، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما تقدم في العهد قبله:
أما بعد، فالحمد لله الذي استحق الحمد بفضله، وأجرى القضاء على ما أراده ووسع الجرائم بعفوه وعدله، وصرف المراحم بين قوله وفعله، وأعلى منار الحق وأرشد إلى أهله، واختار الإسلام ديناً وعصم المعتلقين بحبله، وأوضح سبل النجاة بما أوضح لسالكيه من سبله، وتعالى علاه إلى الصفات، فلم يوصف بمثل قوله: ليس كمثله وتنزه عن اشتراك التشبيهات، في كل جليل الوصف مستقله وغير مستقله، علم ما اشتملت عليه خطرات الأسرار، وأشارت إليه نظرات الأبصار، وانفرجت عنه غمرات الأخطار، وأخفته سترات الظلماء وباحت به جهرات الأنوار: {سواءٌ منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ باللّيل وساربٌ بالنّهار}.
والحمد لله الذي جعل الدين عنده الإسلام، فمن ابتغى غيره ضل المنهج، وأبعد المعرج، واستلقح المخدج، وغلط المخرج، وفارق النور الأبلج، وركب الطريق الأعوج، وأتى يوم القيامة باللسان الملجلج، ومن أسلم وجهه إليه فاز بالسعي النجيح، وحاز المتجز الربيح، وورد المورد الأحمد، ويمم القصد الأقصد، ووجد الجد الأسعد، وسلك المنهج الأرشد، فهو العروة الوثقى، والطريقة المثلى، والدرجة العليا، وأمر به خير المرسلين، المنعوت في سير الأولين، المبعوث بالحق المبين، والقائم رسولاً في الأميين، والهادي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم، والداعي الذي من أجابه وآمن به غفر له ما تقدم من ذنبه وأجير من عذابٍ أليم، والمستقل بالعبء العظيم، بفضل ما منح من الخلق العظيم، والممدوح بقوله: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ}.
والحمد لله الذي وصل النبوة بالإمامة، وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه إلى يوم القيامة، وخصها بالخصائص التي لا تنبغي إلا لتام الكرامة، وأجار بها خلقه من متالف الطامة وبوادي الندامة، وهدى بشرف مقامه إلى دار المقامة، واسترد بأنوار تدبيره من ظلام الباطل الطلامة، وأحسن بما أجراه من نظره النظر للخاصة والعامة، إن هذا لهو الفضل المبين.
يحمده أمير المؤمنين أن رفعه إلى ذلك المحل المنيف، واستعمر به المقام الشريف، وأظهر كلمة الدين الحنيف، ونفى عنه تغالي التعمق وتجديف التحريف، وبين بموافقة توفيق هديه طريق التكليف، وأمده بمواد إلهيةٍ تشتهر فتستغني عن التعريف، وتتصل فتقطع مواد التكييف.
ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ الذي نسخ بشريعته الشرائع، وهذب بهدايته المشارع، وأيده بالحجج القواطع، والأنوار السواطع، وجعل من ذريته جبال الله القوارع، ومن مشكاته نجوم الهدى الطوالع، وعدقت صنائعه بالله إذا افتخرت المنعمون بالصنائع، وعلى أخيه وأبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المخصوص بأخوته، وأبي الثقلين من عترته، والسابق إلى الإسلام فهو بعده أبو عذرته، وإلى تفريج الكرب عن وجهه في الحرب فهو ابن بجدته. وعلى الأئمة من ذريتهما مصابيح الظلمات، ومفاتيح الشكوك المبهمات، والممنوحين من شرف السمات، ما جل عن المسامات، والممدوحين بفضل الجاه في الأرضين والسموات.
وإن الله بحكمته البديعة، ورحمته الوسيعة، أقام الخلفاء لخلقه قواماً ويحقه قواماً، وجعل نار الحوادث بنورهم برداً وسلاماً، وجعل لهم الهداية بأمره لزاماً، واستصرف بهم عن الخلق عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، فهم أرواحٌ والخلائق أجسام، وصباحٌ والمسالك أظلام، وثمراتٌ والوجود أكمام، وحكام والحقائق أحكام، يسهرون في منافع الأنام وهم نيام، وينفردون بوصب النصب، ويفردونهم بلذات الجام، ويهتدون بهداياتهم إلى ما تدق عنه حوائط الأفهام، ولا يدرك إلا بوسائط إلهام. وقد اصطفى الله الأمير من تلك الأسرة، ورقاه شرف تلك المنابر وملك تلك الأسرة، وأنار بمقامه نجوم السعادة المستسرة، واستخدم العالم لأغراضه، وسدد كل سهمٍ في رميه إلى أغراضه، وأقرض الله قرضاً حسناً فهو واثقٌ بحسن عواقب إقراضه، وافترض طاعته في خلقه فالسعيد من تلقى طاعة أمير المؤمنين بافتراضه، وأمضى أوامره على الأيام فما يقابلها صرفٌ من صروفها باعتراضه، وأدار الحق معه حيث دار، وكشف له ما استجن تحت أستار الأقدار، ووقف الخيرة والنصرة على آرائه وراياته فهو المستشار والمستخار، وألهمه أن يحفظ للأمة غدها كما حفظ لها يومها، وأن يجري لها موارد توفيق الارتياد ولا يطيل حومها، وأن يجعل المؤمن على ثلج من الصدور، وفلج من الظهور، ويودع عندها برد اليقين بالإشارة إلى مستودع النور، ويجعلها على شريعةٍ من الأمر فتتبعها، ويحلها بمنزلة الخصب فترتبعها، ويعلم ندي خيره ليكون غايتها ومفزعها، ويعرفها من تنتظره فتتخذه مآلها ومرجعها، ويقتدي في ذلك بسيد المرسلين في يوم الغدير ويشير إلى من يقوم به المشير مقام البشير.
ولما كنت حافظ عهد أمير المؤمنين والسيد الذي لا بد أن يتوج به السرير، والنجم الذي لا بد أن نستطيل إلى أنواره ونستطير، والذخيرة التي ادخرها الله لنيل كل خطر ودفع كل خطير، والسحاب الذي فيه الثج المطير، والنجم المنير، والرجم المبير، وقد تجلت لك أوجه الكرامات وتبدت، وتبرجت لك مخطوبات المقامات وتصدت، وطلبتك كفؤاً لنيل عقيلتها وسكنى معقلها فما تعدت، وأدت إليك لطائف فهمك من أسرار الحقائق ما أدت، وعرفت من سيماك هدي النبوة، واجتمع لك مزية الشرفين من الطرفين الأبوة والبنوة، وأخذت كتاب الحكمة ومصون العصمة بقوة، وأجرت القلوب التي بعوارض الشك ممنوة، وآثرت العقائد التي بنواقض العقد مملوة، وغدت وجوه الأنام بأيامك مجلوة، وتوافقت الألسن على مدحك ولا مثل ما مدحت من الآيات المتلوة، وكنت بحيث تذهب بالأهوال المسلوة، وتقبل بالآمال المرجوة، ولو أن ركباً ضل لهداه نورك في الليل البهيم، ولو أن ذكرك شذ لتبدى في الآيات والذكر الحكيم، ولو أنك طلعت على الأولين لما تساءلوا ولا اختلفوا في النبإ العظيم، ولو أن قديماً علا فوق كل حديثٍ لقام لك الحديث مقام القديم، ولو أن جميع الأنام في صعيدٍ واحدٍ لصعدت دونهم المقام الكريم، ولو أن يدك البيضاء تجسمت للناظرين لأعدت آية موسى الكليم، ولو أن هدايتك الغراء تنسمت للذاكرين لأحييت بها العظام وهي رميم، ولو أن علومك انتشرت بين العلماء لتلوا: {وفوق كل ذي علمٍ عليم} ولو أن ليلة ولادتك رصدتها البصائر، رأت كيف يفرق فيها كل أمرٍ حكيم، والصفات إذا احتفل أربابها وقفت لك عبيداً، والأيام إذا كانت ظروفاً لفضائلك كان كل يوم منها للعبيد عيداً، والأنساب إذا عددتها كان الجد سعيداً، فلتفخر قبل السير بأن أمليت عليها السور، وأبشر بأن المنتظر من فضل الله لك فوق ما تعجله النظر، واشمخ بأن سادة القبائل مضر وأنك بعد أمير المؤمنين سيد مضر، وابذخ بأنك عوضٌ من كل من غاب وما عنك عوضٌ في كل من حضر وابجح بأنك قد أهلت لأمرٍ أبى الله له إلا أولي العزم والخطر، واشكر الله على نعمة خلقك لها بقدر، ومزيةٍ لا يوفي حقها من أضمر فأغرق أو نطق فشكر، وقل {الحمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانا لِهذا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أنْ هَدَانا الله}، وقل {رَبِّ أوْزِعْني أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى وَالِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالحاً تَرْضَاه}.
فإليك هذا الأمير يصير، وأنت له والله لك نعم المولى ونعم النصير، وتأهب له في درجته التي لا ينهالها باعٌ قصير، ولا يمتطيها إلا من اختاره الله على علم من أهل الثقلين ولو أن بعضهم لبعضٍ ظهير، ولا ترى لها أهلاً إلا من أراه الله من آياته أنه هو السميع البصير، وفاوض أمير المؤمنين في مشكلات الأمر ولا ينبئك مثل خبير، واقتد منه بمن هو في أهل دهره وصي الوصي ونظير النذير، واهتد بنوره الذي هو بالنور البائن دون الخلق بشير، وسرد إذا استعملك الله فيهم بما رأيت أمير المؤمنين به فيهم يسير، وادع الله بأن ييسر على يدك مناجحهم إن ذلك على الله يسير، وأعرف ما آثرك الله به من أنه لم يجعل ليدك كفؤاً إلا ذا الفقار ولا لقدمك كفؤاً إلا المنبر والسرير، وتحدث بنعمة الله وإجرائها فأمير المؤمنين اليوم عليك أميرٌ وأنت غداً على المؤمنين أمير: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُونِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فإنَّما يَشْكُرُ لنفسه}.
وأما العدل وإفاضته، والجور وإغاضته، والصعب ورياضته، والجدب وترويضه، والخطب وتفويضه، والجهاد ورفع علمه، والذب عن دين الله وحفظ حرمه، والأمر بالمعروف ونشر ردائه، والنهي عن المنكر وطي اعتدائه، وإقامة الحد بالصفح والحد، والمساواة في الحق بين المولى والعبد، وبث دعوة الله في كل غور من البلاد ونجد، وأمر عباد الله إن عباد الله في زمنك الرغد، فذلك عهد الأئمة الراشدين، وهو إليك من أمير المؤمنين، عهدٌ مؤكد العقد، وهو سنة فضل الخلفاء التي لا تجد لها تحويلاً، ومعنى العهد الذي أمر الله بالوفاء به فقال: {إنَّ العَهْدَ كان مَسْئُولاً}.
وهل يوصى البحر بتلاطم أمواجه وتدافع أفواجه وبتزاخر عجاجه؟ وهل يحض البدر المنير على أن ينير سراجه، ويطلع ليتضح للسالك منهاجه أو ينبه على هدايته إذا تهادته أبراجه؟ وعليك من سرائر أنوار الله ما يغنيك أن توصى، ولديك من ظواهر لطائف الله ما تميز به عن الخلق إذا أضحيت به مخصوصاً، ومن شواهد اختيار الله ما تظاهرت عليك آياتك نصوصاً، فبسلام الله يحييك المؤمنون، وبالاعتلاق بعصمة ولائك في يوم الفزع الأكبر يأمنون، والله منجزٌ لك وعده كما أنجزه لمن جعلهم أئمةً لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون، والله سبحانه يهدي إليك تحيةً من عنده مباركةً طيبة، ويسدي إلى مقام شرفك سحابة رحمةٍ غدقةً صيبة، ويجعل ما رآه أمير المؤمنين من ولايتك عهده، وكفالتك للأمة بعده، للمسرات ناظماً، وللمساءات حاسماً، وللبركات جامعاً، وللباطل خافضاً وللحق رافعاً. وأمر أمير المؤمنين أن يعين على رجال من أولياء دولته، ووجوه شيعته، وأنصار سريته، عدةٌ يكون إليك اعتزاؤها وبك اعتزازها، وببابك العالي إقامتها وإلى جنابك انحيازها، فتكون موسومةً بالعبودية، ومتعرضة بالولاء للسعادة الأبدية، فتمتثل على ما تمثله من المراسم، وتتصرف على ما تصرفها عليه من العزائم، وتكون أبداً لما ينفذ عنك من أحكام الهبات والمكارم، وتقوم من ملازمة الخدمة في مواكبك بما هو لكل خادمٍ فرضٌ لازم، وتسارع في مطالبك إلى ما يسارع إليه الحازم، وتجود يا سماء الإنعام بالغدق الساجم. وتقدر لها من الواجبات والزيادات ما تقتضيه همم المكارم، تبذل في الخدمة الاجتهاد، وتنافس فيما تستمد به الحظوة بحضرته والإحماد، وعرضها من الإحسان الجم للازدياد، وبلغها المراد بما تبلغ بها من المراد، لتتشرف بأن تكون تحت ركابه العالي متصرفة، وتفتخر بأن تكون أنسابها باسمه العالي متشرفة، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثالث: أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله...:
ثم يأتي بالبعدية ويأتي بما يناسب الحال على نحو ما تقدم، وعليه عمل أهل زماننا مع الاقتصار على تحميدةٍ واحدةٍ، والاختصار في القول.
وهذه نسخةٌ أوردها علي بن خلف من إنشائه في كتابه مواد البيان لترتيب الكتابة في زمن الفاطميين، وهي:
الحمد لله معز دينه بخلفائه الراشدين، ومرتب حقه بأوليائها الهادين، الذي اختار دين الإسلام لصفوته من بريته، وخص به من استخلصه من أهل طاعته، وجعله حبله المتين، ودينه الذي أظهره على كل دين، وسبيله الأفسح، وطريقه الأوضح، وابتعث به نبيه محمداً صلى الله عليه فصدع بأمره، وأعلن بذكره، والناس في فترة الضلالة، وغمرة الجهالة، فلما أنجز في نصرة حقه، وتأييده لسعداء خلقه قبضه إليه محمود الأثر، طيب الخبر وقام بخلافته، من انتخبه من طهره عترته، وأودعهم حكمته، وكفلهم شريعته، فاقتفوا سبيله، واتبعوا دليله، كلما قبض منهم سلفاً إلى مقر مجده، اصطفى خلفاً للإمامة من بعده.
يحمده أمير المؤمنين أن أفضى إليه بتراث الإمامة والرسالة، وهدى به كما هدى بجده من الزيغ والضلالة، واختصه بميراث النبوة والخلافة، ونصبه رحمةً للكافة، وأتم نعمته عليه كما أتمها على آبائه، وأجزل حظه من حسن بلائه، وأعانه على ما استرعاه، ووفقه فيما ولاه، وأنهضه بإعزاز الملة، وإكرام الأمة، وإماتة البدع، وإبطال المذهب المخترع، وإحياء السنن، والاستقامة على لاحب السنن، ووهبه من بنيه وذريته مؤازرين على ما حمله من أعباء خلافته، ومظاهرين على ما كلفه من إمعان النظر في بريته.
ويسأله الصلاة على محمدٍ خاتم أنبيائه، والخيرة من خلصائه، الذي شرفه بختام رسله، وإقرار نيابته في أهله، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه وباب حكمته، علي بن أبي طالب وصيه في أمته، وعلى الأئمة الطهرة من ذريته، مناهج رحمته، وسرج هدايته، وسلم تسليماً.
وإن الله تعالى جعل الخلافة للكافة عصمة، ولأهل الإيمان رحمة، تجمع كلمتهم، وتحفظ ألفتهم، وتصلح عامتهم، وتقيم فرائضه وسننه فيهم، وتمد رواق العدل والأمنة عليهم، وتحسم أسباب الكفر والنفاق، وتقمع أهل العناد والشقاق، ولذلك وصل الله حبل الإمامة، وجعلها كلمةً باقيةً في عقب أوليائه إلى يوم القيامة.
ولما نظر أمير المؤمنين بعين اليقين، واقتبس من الحقيقة قبس الحق المبين، عرف ما بنيت عليه الدنيا من سرعة الزوال، ووشك التحول والانتقال، وأن ما فوض الله إليه م خلافته لا بد أن ينتقل عنه إلى أبنائه الميامين، كما انتقل إليه عن آبائه الراشدين، فلم يغتر بمواعيدها المحال، وأضرب عما تخدع به من الأماني والآمال، وأشفق على من كفله الله بسياسته، وحمله رعايته من أهل الإسلام المعتصمين بحبل دعوته، المشتملين بظل بيعته، عند تقضي مدته ونزوعه إلى آخرته في الوقت المعلوم، بالأجل المحتوم، من انتشار الكلمة، وانبتات العصمة، وانشقاق العصا، وإراقة الدما، واستيلاء الفتن، وتعطيل الفروض والسنن، فنظر لهم بما ينظم شملهم، ويصل حبلهم، ويزجر ظلمتهم، ويجمع كلمتهم، ويؤلف أفئدتهم، ورأى أن يعهد إلى فلان ولده؛ لأنه قريعه في علمه وفضله، وعقيبه في إنصافه وعدله، والملموح من بعده، والمرجو ليومه وغده، ولما جمع الله له من شروط الإمامة، وكمله له من أدوات الخلافة، وجبله عليه من الرحمة والرافة، وخصه به من الرصانة والرجاحة، والشجاعة والسماحة، وآتاه من فصل الخطاب، جوامع الصواب ومحاسن الآداب، ووقاية الدين، والغلظة على الظالمين، واللطف بالمؤمنين، بعد أن قدم استخارة الله تعالى فيه، وسأله توفيقه لما يرضيه، ووقف فكره على اختياره، ولم يكن باختياره مع إيثاره، ويلوح في شمائله، ويستوضح في مخايله، أنه الولي المجتبى، والخليفة المصطفى، الذي يحمي الله به ذمار الحق، ويعلي بسلطانه شعار الصدق، وأنه- سبحانه- قد أفضى إليه بما أفضى به إلى الخلفاء من قبله، وأفاض عليه من الكامنات ما أفاضه على أهله، وبعد أن عاقده وعاهده على مثل ما عاهده عليه آباؤه، من تقوى الله تعالى وطاعته، واستشعار خيفته ومراقبته والعمل بكتابه وسنته، وإقامة حدود الله التي حدها، بفروضه التي وكدها والاقتداء بسلفه الراشدين في المكافحة عن الدين، والمسامحة عن أوزار المسلمين، وبسط العدل على الرعية، والحكم بينهم بالسوية، وإنصاف المظلوم من الظلوم، وكف يد المغتصب الغشوم، وصرف ولاة الجور عن أهل الإسلام، وتخير من ينظر بينهم في المظالم والأحكام، وأن لا يولي عليهم إلا من يثق بعدالته، ويسكن إلى دينه وأمانته، ولا يفسح لشريف في التعدي على مشروف، ولا يقوى في التسلط على مضعوف، وأن يحمل الناس في الحقوق على التساوي، ويجريهم في دولته على التناصف والتكافي، ويأمر حجابه ونوابه بإيصال الخاصة والعامة إليه، وتمكينهم من عرض حوائجهم ومظالمهم عليه ليعلموا: الولاة والعمال، أن رعيته على ذكر منه وبال، فيتحاموا التثقيل عليهم والإضرار بهم. وأشهد عليه بكل ما شرطه وحدده، والعمل بما يحمد إليه فيما تقلده. على أنه غني عن وصية وتبصير، وتنبيهٍ وتذكير، إلا أن محمداً سيد المرسلين يقول لعلي صلى الله عليهما أرسل عاقلاً إلا فأوصه.
فبايعوا على بركة الله تعالى طائعين غير مكرهين، برغبةٍ لا برهبة، وبإخلاصٍ لا بمداهنة، بيعة رضاً واختيار، وانقيادٍ وإيثار، بصحةٍ من نياتكم، وسلامةٍ من صدوركم، وصفاءٍ من عقائدكم، ووفاءٍ واستقامةٍ فيما تضعون عليه أيمانكم، ليعرفكم الله من سبوغ النعمة، وشمول الحبرة، وحسن العاقبة، واتفاق الكلمة، ما يقر نواظركم، ويبرد ضمائركم، ويذهب غل صدوركم ويعز جانبكم، ويذل مجانبكم، فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله.
وقد يغني هذا الكتاب الذي ذكرناه مغنى العهد، فلا يحتاج إلى عهد.
وعلى ذلك كتب عن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أحمد، عهد ولده المستوثق بالله بركة بالخلافة بعده. وهذه نسخته: الحمد لله الذي أيد الخلافة العباسية بأجل والدٍ وأبر ولد، وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه والسند كالسند، وآواهم من أمرهم إلى الكهف فالكهف وإن تناهى العدد، وزان عطفها بسؤدد سواد شعارهم المسجلة أنوارهم ولا شك أن النور في السواد، وعدق بصولتهم النبوي معجزها كل مناد.
نحمده على ما من به من تمام النعمة فيهم، ونزول الرحمة بتوافيهم، ونشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له شهادةً محضة الإخلاص، كافلاً محضها بالفكاك من أسر الشرك والخلاص، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بما أوضح سبل الرشاد، وقمع أهل العناد، والشفيع المشفع يوم التناد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً لا انقضاء لها ولا نفاد، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد فإن أمير المؤمنين ويذكر اسمه يعتصم بالله في كل ما يأتي ويذر مما جعل الله له من التفويض، ويشر إلى الصواب في كل تصريح منه وتعريض، وإنه شد الله أزره، وعظم قدره، استخار الله سبحانه وتعالى في الوصية بما جعله الله له من الخلافة المعظمة المفخمة الموروثة عن الآباء والجدود، الملقاء إليه مقاليدها كما نص عليه ابن عمه صلى الله عليه وسلم في الوالد من قريش والمولود، لولده السيد، الأجل المعظم المكرم، فلان، سليل الخلافة وشبل غابها، ونخبة أحسابها وأنسابها، أجله الله وشرفه، وجمل به عطف الأمانة وفوفه، لما تلمحه فيه من النجابة اللائحة على شمائله، وظهر من مستوثق إبداء سره فيه بدلائل برهانه وبرهان دلائله؛ وأشهد على نفسه الكريمة- صانها الله تعالى- مولانا أو سيدنا أمير المؤمنين، من حضر من حكام المسلمين: قضاة قضاتهم، وعلمائهم، وعدولهم، بمجلسه الشريف، أنه رضي أن يكون الأمر في الخلافة المعظمة، الذي جعله الله له الآن لولده السيد الأجل فلان بعد وفاته، فسح الله في أجله، وعهد بذلك إليه، وعول في أمر الخلافة عليه، وألقى إليه مقاليدها، وجعل بيده زمام مبدئها ومعيدها، وصى له بذلك جزئيه وكليه، وغامضه وجليه، وصيةً شرعيةً بشروطها اللازمة المعتبرة، وقواعدها المحررة، أشهد عليه بذلك في تاريخ كذا.
الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد ولي الخلافة عن الخليفة وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة وما يكتب في ذيل العهد بعد إتمام نسخته من قبول المعهود إليه وشهادة الشهود على العهد:
أما ما يكتب في المستند، فينبغي أن يكون كما يكتب في عهود الملوك عن الخلفاء، على نحو ما تقدم في البيعات، وهو أن يكتب: بالإذن العالي، المولوي، الإمامي، النبوي، الفلاني بلقب الخلافة أعلاه الله تعالى أو نحو ذلك من الدعاء.
وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، فينبغي أن يكتب: عهدت إليه بذلك؛ لأنه اللفظ الذي ينعقد به العهد. ولو كتب: فوضت إليه ذلك كما يكتب الخليفة في عهد السلطان الآن على ما سيأتي، كفى ذلك. والأليق بالمقام الأول.
وأما ما يكتب في ذيل العهد بعد تمام نسخته، فالمنقول فيه عن المتقدمين ما كتب به علي الرضي تحت عهد المأمون إليه بالخلافة، وهو:
الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلواته على نبيه محمدٍ خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين. أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر: إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاماً قطعت، وأمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، متبعاً رضا رب العالمين، لا يريد جزاءً من غيره وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين، وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى إن بقيت بعده، فمن حل عقدةً أمر الله بشدها، أو فصم عروةً أحب الله إيثاقها، فقد أباح حريمه وأحل محرمه، إذ كان بذلك زارياً على الإمام، منتهكاً حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف فصبر منهم على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفاً على شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية ورصد فرصة تنتهز، وباقيةٍ تبتدر. وقد جعلت لله تعالى على نفسي إن استرعاني على المسلمين، وقلدني خلافته، العمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً ولا مالاً، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي. جعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: {وأوْفُوا بالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كان مَسْئُولاً}. فإن أحدثت أو غيرت أو بدلت، كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، في عامة المسلمين، والخاصة والحضر يدلان على ضد ذلك: {ومَا أدْرِي ما يُفَعْلُ بي وَلاَ بِكُمْ} {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وهُوَ خَيْرُ الفاصِلِين}. لكنني امتثلت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفى بالله شهيداً. وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- والفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكثم، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين.
ثم كتب فيه من حضر من هؤلاء وهذه صورة كتابتهم.
فكتب الفضل بن سهل وزير المأمون ما صورته: رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب، ظهره وبطنه، بحرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين الروضة والمنبر على رؤوس الأشهاد، ومرأًى ومسمع من وجوه بني هاشم وسائر الأولياء والأجناد، وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع المسلمين، وأبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْه}. وكتب الفضل بن سهل في التاريخ المعين فيه.
وكتب عبد الله بن طاهر ما صورته أثبت شهادته فيه بتاريخه عبد الله بن طاهر بن الحسين.
وكتب يحيى بن أكثم القاضي ما صورته: شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها وبطنها، وكتب بخطه بالتاريخ.
وكتب حماد بن النعمان ما صورته: شهد حماد بن النعمان بمضمون ظهره وبطنه، وكتب بيده بتاريخه.
وكتب بشر بن المعتمر ما صورته: شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر، وكتب بخطه بالتاريخ.
قلت: وعلى نحو ما تقدم من كتابة المعهود إليه بالقبول وشهادة الشهود على العهد ينبغي أن يكون العمل أيضاً في زماننا، ليجتمع خط العاهد بالتفويض على ما تقدم، وشهادة الشهود. ولو اقتصر المعهود إليه في الكتابة على قوله: قبلت ذلك كان كافياً، وإن كان أمياً أكتفي بشهادة الشهود.
الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الخلفاء والقلم الذي يكتب به وكيفية كتابتها وصورة وضعها:
أما قطع الورق فمقتضى قول المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن للعهود قطع البغدادي الكامل، وأن عهود الخلفاء تكتب في البغدادي كما هو مستعمل في عهود الملوك عن الخلفاء، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وهو مقتضى ما تقدم في الكلام على قطع الورق في مقدمة الكتاب نقلاً عن محمد المدائني في كتاب القلم والدواة أن القطع الكامل للخلفاء.
قلت: وقد أخبرني من يوثق به أنه وقف على عهد المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر، والد المتوكل على الله، أبي عبد الله محمد خليفة العصر، وهو مكتوب في قطع الشامي الكامل، وأنه كتب عهد المتوكل على ظهره بخط الشهود دون كاتب إنشاء. وكأنهم لما تقهقرت الخلافة وضعف شأنها، وصار الأمر إلى الملوك المتغلبين على الخلفاء، تنازلوا في كتابة عهودهم من قطع كامل البغدادي إلى قطع الشامي. وهذا هو المناسب للحال في زماننا.
وأما القلم الذي يكتب به، فالحكم فيه ما تقدم في البيعات، وهو إن كتب العهد في قطع البغدادي، كتب بقلم مختصر الطومار. وإن كتب في قطع الشامي، كتب بقلم الثلثين الثقيل.
وأما كيفية الكتابة وصورة وضعها، فعلى ما تقدم في كتابة البيعات، وهو أن يبتدأ بكتابة الطرة في أول الدرج بالقلم الذي يكتب به العهد سطوراً متلاصقةً ممتدةً في عرض الدرج من أوله إلى آخره من غير هامش. ثم إن كانت الكتابة في قطع البغدادي الكامل، جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء، فيترك بعد الوصل الذي فيه الطرة ستة أوصال بياضاً من غير كتابة، ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث يلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه، بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة، ثم يكتب تحت البسملة سطراً من أول العهد ملاصقاً لها، ثم يخلي مكان بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك، ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة. ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في السطر الأول أو الثاني، ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره، ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش. فإذا انتهى إلى آخر العهد، كتب إن شاء الله تعالى ثم المستند، ثم الحمدلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والحسبلة، على ما تقدم في الفواتح والخواتم. ثم يكتب المعهود إليه والشهود بعد ذلك. وإن كتب في قطع الشامي، فعلى ما تقدم في البيعات، من أنه ينبغي أن يقتصر في أوصال البياض على خمسة أوصال، ويكون الهامش قدر ثلاثة أصابع.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثلاً فيها بالطرة التي أنشأتها، على ما تقدم ذكره في العهد الذي أنشأته على لسان الإمام المتوكل على الله خليفة العصر لولده العباس. وهو العهد الأخير من المذهب الأول من عهود الخلفاء عن الخلفاء.
بياض بأعلى الدرج تقدير إصبع هذا عهدٌ إماميٌ قد علت جدوده، وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده، وفصلت بالجواهر قلائده ونظمت بنفيس الدر عقوده، من عبد الله ووليه الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر، بالخلافة المقدسة لولده السيد الجليل، ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين، أبي الفضل العباس، بلغه الله تعالى فيه غاية الأمل، وأقر به عين الأمة كما أقر به عين أبيه وقد فعل على ما شرح فيه.
بياض ستة أوصال:
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش هذا عهدٌ سعيد الطالع ميمون الطائر مبارك الأول عهدت إليه بذلك وكتب فلان بن فلان جميل الأوسط حميد الآخر تشهد به حضرات الأملاك وترقمه كف الثريا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك وتباهي به ملائكة الأرض ملائكة السما، وتسري بنشره القبول إلى الأقطار فتنشر له بكل ناحية علما، وتطلع به سعادة الجد من ملوك العدل في كل أفق نجما.
ثم يأتي على الكلام إلى آخر العهد على هذا النمط إلى أن ينتهي إلى قوله فيه والله تعالى يبلغه منك أملا، ويحقق فيك علماً ويزكي بك عملاً.
إن شاء الله تعالى كتب في اليوم الأول من المحرم سنة إحدى وثمانمائة بالإذن العالي، المولوي، الإمامي، النبوي، المتوكلي، أعلاه الله تعالى الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل قبلت ذلك شهد على العاهد والمعهود إليه وكتب فلانٌ ولي فيه زادهما الله شرفاً عهد أمير المؤمنين وكتب فلان بن فلان وكذا بقية الشهود.